نشأة الكتابة ومراحل تطوّرها
كانت ولا زالت اللغة أداة التواصل بين البشر، ولكن اللغة المنطوقة غير قادرة على حفظ العلوم والمعارف، لأنها تعتمد على الذاكرة البشرية التي يصيبها النسيان، لذلك اخترعت الكتابة التي جعلت الإنسان من خلالها قادرا على تحويل الكلام المنطوق إلى رموز ودلالات تعبر عنه.
تعد الكتابة من أهم الإنجازات الحضارية التي استطاع الإنسان الوصول إليها عبر تاريخه الطويل، والتي أدت إلى تطور الحضارة الإنسانية على مر العصور، حيث أصبحت وسيلة هامة لتحويل الفكر الإنساني من الحالة العقلية المجردة إلى أشكال ورموز تحمل دلالات معرفية قابلة للحفظ دون الخوف عليها من الضياع أو النسيان.
وتسهم الكتابة بنقل المعارف بين الناس والشعوب، دون الاعتماد على الذاكرة التي تخون الإنسان، كما أن لها دورا كبيرا في نقل المعلومات والمعارف إلى الأجيال اللاحقة، فالكتابة تنوب عن اللغة والكلام المباشر، وتنقل الأفكار، والعلوم، والأخبار بسهولة، وهي ضرورية وهامة للتطور في كل مجالات الحياة الإنسانية والعلمية.
ما هي مراحل تطور الكتابة؟
مرت الكتابة بمراحل كثيرة إلى أن وصلت إلى الشكل الحالي الذي ندعوه الأبجدية، وهي:
1- الكتابة البدائية التصويرية
حيث تعتمد على التعبير بالرموز، والإشارات، ورسم الأشياء كما هي، مثل: تصوير الإنسان بشكله الكامل، أو رسم جزء من الشيء، مثل: رسم رأس الثور الذي يقصد منه الثور ذاته، كما عبروا عن المعاني المجردة بالرموز، حيث عبروا عن الحرب برسم أدواته من سيوف ورماح، وعبروا عن الموت برسم جمجمة، وقد عرفت كتابات قديمة مشهورة، مثل:
الكتابات المصرية الهيروغليفية
كما سماها الإغريق، وتعني الكتابات المقدسة، وقد ظهرت في وادي النيل، ويعود تاريخها إلى 4000 قبل الميلاد، وقد اعتمدت على رسم الجملة بالصورة، وكتبت على ورق نبات البردي في زمن الفراعنة المصريين، كما نقشت على الحجر، والنصب التذكارية، والمسلات في القصور والمعابد. وتحوي 24 شكلا لكلمات أحادية الصوت، واتجاه كتابتها من اليمين إلى اليسار أفقيا ورأسيا، وقد احتفظت بمبادئ نحو وصرف اختلفت بها عن غيرها من اللغات، وقد تولد عنها كتابتين، وهما:
أ – الكتابة الهيراطيقية الدينية: التي استخدمها الكهنة في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد.
ب- الكتابة الديموطيقية الشعبية: التي ظهرت من منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، ومنها استمد الفينيقيون أبجديتهم، ويعتقد بأنها الأصل الذي استنبطت منه الأبجدية الألفبائية.
ويعتبر حجر رشيد الذي اكتشفه العالم الفرنسي شامبليون عام 1822، والذي كتب بهاتين اللغتين إضافة إلى اللغة اليونانية شاهدا على الكتابات المصرية القديمة.
الكتابات التصويرية السومرية
ظهرت في أواخر الألف الرابعة وبداية الألف الثالثة قبل الميلاد، وكانت تنقش على الطين والحجارة، وتختلف عن الهيروغليفية المصرية بأنها اعتمدت على الصور فقط، ولم تحو حروفا، ولكنها تطورت بعد ذلك نتيجة امتزاجها مع الهيروغليفية، فأدى ذلك إلى ظهور الحروف الأبجدية.
الكتابات التصويرية الصينية
وقد ظهرت في الشرق الأدنى، وتعود بدايتها إلى وقت أحدث من الكتابتين الهيروغليفية والسومرية، ولكنها لم ترق إلى مستواهما.
2- الكتابة المقطعية
ظهرت نتيجة اتجاه الإنسان إلى اللغة محاولا اختصار الصور في كتاباته التصويرية إلى لغة مؤلفة من مقاطع صوتية تعبر عنها، وهذه المقاطع تتألف من أصوات صامتة الحروف، وأصوات صائتة الحركات، مثال: كلمة أبوهم تتألف من ثلاثة مقاطع هي: أ، بو، هم، وكلمة جدودهم تتألف من خمسة مقاطع، هي: ج، دو، د، هن، ن.
سميت بالكتابة المسمارية أو الإسفينية لأنها كتبت بأداة تشبه المسمار أو الإسفين الذي له رأس مثلث الشكل دقيق الرأس، وقد اخترعها السومريون، وطورها البابليون، والآشوريون، وقد انتشرت انتشارا واسعا في جنوب العراق، وأصبحت لغة الشرق الجديد، وكانت تكتب على الرقم ألواح طينية تترك بعد الكتابة عليها لتجففها أشعة الشمس، وعلى الرغم من تطورها إلا أن الرمز الواحد منها كان يحتمل أكثر من لفظ، لذلك اختلف في تأويل معنى نصوصها القديمة.
3- الكتابة الأبجدية الألفبائية
الكتابة الأوغاريتية
حيث تطورت الكتابة في هذه المرحلة، وتعتبر المرحلة الأخيرة، وقد اخترعها الكنعانيون الذين كانوا يسكنون الساحل في الشرق العربي، حيث اكتشفت الرقم المكتوب عليها بالخط المسماري في أوغاريت، والتي تمثل الشكل الأول للأبجدية العربية، حيث كانت تحتوي على ثمان وعشرين حرفا، وظهرت فيها الهمزة، ولكنها لم تنتشر خارج حدود أوغاريت، وتكتب من اليسار إلى اليمين.
الكتابة الفينيقية
هي أصل للكتابات الأبجدية العالمية، حيث نقلها التجار الفينيقيون إلى اليونان، والرومان، ونشرها الآراميون في الشرق: بلاد فارس، الهند، آسية الوسطى، وجنوب شرقي آسيا، وقد انتشرت نقوشها انتشارا واسعا أيضا في: سورية، آسية الصغرى، بلاد الرافدين، قبرص، رودس، سردينية، مالطة، مصر، اليونان، وتتألف من اثنين وعشرين حرفا، تجمع في عبارات أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت، وقد استمرت لألف عام، وتكتب حروفها منفصلة، واتجاهها من اليمين إلى اليسار.
الكتابة البونية
هي ابنة الفينيقية، وتسمى أيضا البونيفيقية، وموطنها الأصلي قرطاجة، ليبية، والجزائر، وقد انتشرت أيضا في شمال أفريقية، وغرب البحر المتوسط، صقلية، فرنسا، شبه الجزيرة الإيبرية.
الكتابة السينائية
وجدت آثارها في سيناء مصر، وقرر أنها تخص مجموعة من الكنعانيين الذين كانوا يعملون في مناجم الفيروز لحساب فرعون مصر، وكانوا يتقنون اللغتين الهيروغليفية والأبجدية الكنعانية، فأصبحوا بمثابة حلقة وصل بين اللغتين، فاقتبسوا الصور من الهيروغليفية وعبروا عن الشكل بالصوت، مثال: البيت رسموا شكله، ولفظوه ب، ورسموا رأس الجمل، ولفظوه ج، وهكذا حتى تجمعت عندهم مجموعة من الأصوات التي انتقلت إلى الساحل السوري، وبدورهم عملوا على تطوير هذه الأشكال وتبسيطها حتى اتخذت الشكل الفينيقي المعروف.
الكتابة الآرامية
تعود هذه الكتابة إلى القرن التاسع قبل الميلاد، حيث كان الآراميون يسكنون في بلاد الشام إلى جوار الفينيقيين، فأخذوا كتابتهم، وبقيت حروفها تكتب منفصلة، ولكنهم طوروها، فجعلوها أشكالا مربعة، فأطلق عليها الكتابة الآرامية المربعة، وقد استخدمها الأنباط، والسريان، والتدمريون، حيث كانت لغة العلم والوجاهة، فنقشوا بها على الحجارة وثائقهم، واشتقوا منها قلمهم الخاص، فنشأ القلم الآرامي السرياني، ثم جاء الأنباط، في كتاباتهم، ولكنهم عدلوا عليها بكتابة حروفها متصلة، فنشأ القلم الآرامي النبطي متشابها مع القلم الآرامي السرياني من حيث المبدأ، ولكنه يختلف عنه في الشكل.
الكتابة العربية الشمالية
ظهرت الكتابة العربية في القرنين السادس والسابع الميلاديين، في المرحلة الانتقالية بين النبطية المتأخرة والعربية الكاملة، وتتمثل في النقوش التي اكتشفت في زبد، وأسيس، وحران، وأم الجمال، ونقش جبل رم الذي بدت من خلاله تباشير العربية الأولى، وتتألف من 29 حرفا.
يرى الباحثون أن العرب الشماليين قد اطلعوا على القلمين السرياني، والنبطي، والقلم اليمني المسند، فدونوا كتاباتهم بها، وعند المقارنة بين حروف العربية والنبطية وجدوا تشابها بينها، فوجدوا أن الخط الحجازي النسخي أصله نبطي، ويرى باحثون آخرون أن الخط العربي الكوفي، والذي يتميز بأشكاله الهندسية أصله القلم السرياني الأسطرنيجيلي، وكلاهما يعودان إلى أصل واحد، وهو القلم الآرامي، الذي يعود بدوره إلى القلم الفينيقي، ثم اشتقت العربية من القلمين النسخي والكوفي، وظهر لها أشكال متعددة، مثل: الثلث، الرقعة، الديواني، الفارسي.
الكتابة اليمنية
تعود آثارها إلى الألف الأولى قبل الميلاد، ويعتقد الباحثون أن أبجديتها تعود إلى الأصل السينائي، وقد أطلق العرب عليها الخط اليمني المسند لأن حروفه تستند إلى أعمدة، وتتكون الأبجدية اليمنية من 28 حرفا مثل العربية الشمالية، وتزيد عنها بحرف السين العبري، وتكتب من اليمين إلى اليسار، ولكن لم يكتب لها الانتشار إلا في الجنوب العربي ثم اندثرت، وحلت عوضا عنها العربية الشمالية، وبقي منها القلم الإثيوبي.
تابعنا للمزيد من الاخبار عبر الواتساب
دليلك الشامل لأحدث الأخبار
0 تعليق
إرسال تعليق