علم البديع – أنواعها، وسحر جماليتها
التورية لها أسماء عدة، منها: الإيهام، والتخيير، والتوجيه. وفي اللغة مصدر ورى الشيء أي أخفاه، أو ورى عنه، أي أراد وأظهر غيره، وكأنه جعل الشيء وراءه. في الاصطلاح البلاغي: أن يكون للفظ معنيان: قريب دلالة اللفظ ظاهرة لكثرة استعماله، وبعيد تكون فيه دلالة اللفظ خفية لقلة استعماله، ويراد المعنى البعيد الذي تدل عليه قرينة، ويورى عنه بالمعنى القريب، كقوله تعالى: يطوف عليهم ولدان مخلدون الواقعة 17، فكلمة مخلدون لها معنيان: المعنى القريب الخلود، والمعنى البعيد مقرطون من الخلدة أي القرط الذي يوضع في الأذن، وهو المعنى المراد. ومن أمثلته في الشعر قول الشاعر سراج الدين الوراق:
أصون أديم وجهي عن أناس
لقاء الموت عندهم الأديب
ورب الشعر عندهم بغيض
ولو وافى به لهم حبيب
لفظ حبيب له معنيان: المعنى القريب المحبوب، والمعنى البعيد هو حبيب بن أوس الطائي المعروف بأبي تمام، وهو المقصود، والقرينة خفية تشير إليه ولا تظهره، ويستدل عليها من سياق الكلام، فيكون المعنى أنهم يبغضون الشاعر، حتى لو كان أحد فحول الشعر، وهو حبيب بن أوس.
ما هي أنواع التورية؟
للتورية أربعة أنواع، وهي:
1- مجردة
لا يذكر فيها لازم يلائم المعنى القريب أو البعيد، كقوله تعالى: الرحمن على العرش استوى طه 5، فلفظ استوى له معنيان: القريب غير المراد هو استقر في المكان ، والله عز وجل منزه عن هذا المعنى، والبعيد المراد هو استولى، ولم يذكر لازم يلائم المعنى القريب أو البعيد، فالتورية هنا مجردة.
ومن ذلك أيضا قول الرسول عليه الصلاة والسلام عند خروجه في بدر، فعندما سئل: ممن أنتم؟ فلم يرد أن يعلم السائل، فقال: من ماء، والمقصود أننا مخلوقون من ماء، فورى عن هذا المعنى بقبيلة من العرب تدعى ماء، فلم يذكر من لوازم المعنى القريب أو البعيد ما يلائمهما، فهي مجردة.
2- مرشحة
سميت بالمرشحة لتقويتها بذكر لازم للمعنى القريب، ولها قسمان:
– ما ذكر فيه لازم المعنى القريب قبل لفظ التورية، ومنه قوله تعالى: والسماء بنيناها بأييد الذاريات 47، فكلمة الأيدي مفردها يد تحتمل معنيان: المعنى القريب هو الجارحة أي اليد التي يكتسب بها، وهي للإنسان، وقد قرن هذا المعنى بما يلائمه البناء على جهة الترشيح، وذكر قبل لفظ التورية، وهو ليس المعنى المراد لأن الله عز وجل منزه عن هذا المعنى، أما المعنى البعيد المراد، فهو القوة وعظمة الخالق.
– ما ذكر فيه لازم المعنى القريب بعد لفظ التورية، ومن ذلك قول الشاعر أبو العلاء المعري:
إذا صدق الجد افترى العم للفتى
محاسن لا تخفى وإن كذب الخال
لفظ التورية هو الجد، وله معنيان: المعنى القريب غير المقصود هو النسب والقربى، وقد ذكر لازمه بعده العم والخال، والمعنى البعيد الحظ أي إذا صدق حظ الفتى اخترع له الناس ما ليس موجودا فيه، وهو المعنى المراد.
3- مبينة
هي ما ذكر فيها لازم المعنى البعيد قبله أو بعده، وهي قسمان:
– ما ذكر فيها لازم المعنى القريب قبله، كقول الشاعر البحتري:
ووراء تسدية الوشاح ملية
بالحسن تملح في القلوب وتعذب
فلفظ التورية هنا هو تملح الذي هو ضد العذوبة، وهو المعنى القريب غير المراد، أما المعنى البعيد المورى والمقصود، فهو الحسن، وقد جاء لازمه قبله فبينه، وهو ملية بالحسن.
– ما ذكر فيه لازم المعنى البعيد بعده، كقول الشاعر:
يا من رآني بالهموم مطوقا
وظللت من فقدي غصونا في شجون
أتلومني في عظم نوحي والبكا
شأن المطوق أن ينوح على غصون
فلفظ التورية هو مطوقا، وله معنيان: المعنى القريب غير المقصود هو محاط العنق، أما البعيد المقصود، فهو الحمامة، حيث شبه نفسه بالحمامة، واقترن المعنى البعيد بملائم له ذكر بعده، وهو شأن المطوق.
4- المهيأة
هي التي يتوقف وقوع التورية في لفظها على لفظ قبله أو بعده، أو تكون في لفظين يهيئ كل منهما التورية في الآخر، وهي ثلاثة أقسام:
– تتهيأ فيها التورية بلفظ قبلها، كقول الشاعر ابن سناء يمدح الملك المظفر:
وأظهرت فينا من سميك سنة
فأظهرت ذاك الفرض من ذلك الندب
ففي كلمتي الفرض والندب تورية، حيث يحتمل أن يراد من المعنى القريب غير المقصود حكمان شرعيان، ويحتمل أن يراد المعنى البعيد المقصود، أن الفرض هو العطاء، والندب هو الرجل السريع في قضاء حوائج الناس، وقد تهيأت التورية بذكر السنة قبلهما، ولولا ذلك لما تهيأت التورية، ولا فهم الفرض والندب على أنهما الحكمان الشرعيان.
– تتهيأ فيها التورية بلفظ بعدها، ومنه قول الشاعر أبي الحسن الجزار:
يا عذولي دعني من العذل إن
النصح في مذهب الهوى تحريض
مت لما نأى فها أنا مندو
ب فراق وحبه مفروض
كلمة مندوب تحتمل معنيان: المعنى القريب غير المقصود هو الحكم الشرعي، وقد تهيأت التورية بذكر كلمة المفروض بعده، أما المعنى البعيد المراد، فهو الميت الذي يبكى عليه.
– تقع التورية في لفظين لولا ذكر كل منهما لما تهيأت التورية في الآخر، ومن ذلك قول الشاعر عمر بن ربيعة:
أيها المنكح الثريا سهيلا
عمرك الله كيف يلتقيان؟
هي شامية إذا ما استقلت
وسهيل إذا استقل يماني
التورية في كلمتي الثريا وسهيل، حيث يحتمل أن الشاعر يريد نجمي الثريا وسهيل، وهذا هو المعنى القريب غير المقصود، ويحتمل أنه يريد الثريا بنت علي بن عبد الله الأموية، وسهيل بن عبد الرحمن بن عوف، وهذا هو المعنى البعيد المراد، وذكر الثريا هو الذي نبه لسهيل النجم المعروف.
جماليات التورية
انتبه البلاغيون إلى جمالية التورية، واعتبروها من أغلى فنون الأدب، وأعلاها رتبة، حيث قال عنها الزمخشري: ولا ترى بابا في البيان أدق، وألطف من هذا الباب، ولا أعون على تعاطي المتشابهات من كلام الله، وكلام رسوله، وكلام صحابته رضي الله عنهم أجمعين.
– تعتبر التورية من الحلول الجيدة لتجنب الحالات الحرجة، حيث تستخدم في مواقف عملية لتخليص المتكلم مما يخشى عواقبه، وينأى بنفسه عنه، فهي بذلك تقتصر على الأذكياء وأهل الفطنة المتبصرين بدقائق المعاني، وبدائع الاستعمالات اللغوية.
– تفتح التورية باب التأويل، وتفسح المجال للتفسيرات المتعددة، بسبب الطاقة الدلالية للألفاظ، والتي تستغل في التورية أفضل استغلال.
تابعنا للمزيد من الاخبار عبر الواتساب
دليلك الشامل لأحدث الأخبار
0 تعليق
إرسال تعليق